أخبار المركز
  • مركز "المستقبل" يصدر العدد الثاني من مجلة "اتجاهات آسيوية"
  • أ. د. نيفين مسعد تكتب: (عام على "طوفان الأقصى".. ما تغيّر وما لم يتغيّر)
  • د. إبراهيم فوزي يكتب: (بين موسكو والغرب: مستقبل جورجيا بعد فوز الحزب الحاكم في الانتخابات البرلمانية)
  • د. أيمن سمير يكتب: (هندسة الرد: عشر رسائل للهجوم الإسرائيلي على إيران)
  • أ. د. حمدي عبدالرحمن يكتب: (من المال إلى القوة الناعمة: الاتجاهات الجديدة للسياسة الصينية تجاه إفريقيا)

"الاستثناء الديني":

كيف يعيد الصراع على الإسلام تشكيل الشرق الأوسط؟

10 سبتمبر، 2016


إعداد: محمد بسيوني عبدالحليم 


يكشف السياق الذي عايشته الدول ذات الأغلبية المسلمة، خاصة في منطقة الشرق الأوسط، عن حالة من الاستثناء الإسلامي، فالتجربة الإسلامية تقدم خبرة مغايرة عن تلك التي شهدتها الديانة المسيحية في المجتمعات الغربية لاعتبارات رئيسية، أهمها أن الإسلام يطرح صيغة متداخلة للعلاقة بين الدين والسياسة لم تعترف بمقولات من قبيل "أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، ومن ثم لم يكن في التجربة الإسلامية ما يتيح إمكانية التعايش مع الأفكار العلمانية الغربية، وما تنطوي عليه من تحييد دور الدين في المجال العام. 

ولم تنعزل هذه الحالة الاستثنائية للإسلام عن التطورات التي مرت بها المجتمعات الإسلامية منذ انتهاء الخلافة العثمانية، ونشأة الدولة القومية الحديثة، التي ظلت تبحث عن شرعيتها في خضم تباينات أيديولوجية هائلة، وتنافس نخبوي بين تيارات مدنية تسعى إلى استنساخ التجربة الغربية، وتيارات أخرى إسلاموية تستند إلى فكرة "الاستثناء الإسلامي" لتعزيز نفوذها.

وفي هذا الصدد، يتناول "شادي حميد"، الزميل بمركز سياسات الشرق الأوسط بمعهد بروكنجز، من خلال كتابه "الاستثناء الإسلامي: كيف يعيد الصراع على الإسلام شكل العالم"، تأثير المكون الديني في تفاعلات السياسة داخل المجتمعات الإسلامية بدول الشرق الأوسط. وينطلق حميد في كتابه المُكوَّن من ثمانية فصول من فرضية أن الإسلام دين استثنائي لطبيعة علاقته بالسياسة، ودوره في تشكيل أوضاع منطقة الشرق الأوسط، وهو الدور المرجح استمراريته في المستقبل، ليتم بذلك استبعاد احتمالية تكرار تجربة الغرب. 

البحث عن الشرعية:

يتعاطى الخطاب التأسيسي للإسلام مع السياسة وشئون الحكم على أنها جزء من منظومة تخضع للتأصيل الديني المستمد من النص الشرعي، وهذه القضية لم تُثِر الكثير من الإشكاليات مع الأجيال الأولى التي عاشت في ظل الدولة الإسلامية، لا سيما مع وجود الرسول -صلى الله عليه وسلم- الذي كان واعظًا ومسئولا عن التعاليم الدينية في الدولة الوليدة، وفي الوقت ذاته كان الحاكم لهذه الدولة. وقد استمرت هذه الصيغة بشكل أو بآخر بعد وفاة الرسول، حيث ظهرت فكرة الخلافة ككيان يتقاطع فيه الديني والسياسي دون أن يمثل هذا الأمر معضلة كبيرة تؤرق المجتمع الإسلامي.

هذه المعطيات التي تجلت في التجربة الإسلامية لم تكن حاضرة في نظيرتها المسيحية، بحسب حميد، حيث لم تشهد الأخيرة جدالا كبيرًا حول شئون الحكم؛ إذ لم يكن هناك ما يُعادل الشريعة الإسلامية بما تتضمنه من نصوص مرتبطة بتنظيم شئون الحكم والسياسة والتفاعلات المجتمعية. 

وفي الوقت الذي كانت فيه فلسفة الشريعة الإسلامية تقوم على درجة كبيرة من الحزم ومواجهة الخطيئة بأشكال متباينة من العقوبات، انطوت المسيحية على الاعتقاد بأن "المسيح خلص البشر من أعباء الخطيئة عندما صُلب، وهو ما يعني بالتبعية أنه خلصهم من عبء الشريعة.. ومن هذا المنطلق، فلا حاجة لدولة تنظم سلوك الأفراد". 

وتأسيسًا على تلك المقدمات، فإن الاستثناء الإسلامي يثير دلالتين جوهريتين؛ أولاهما أنه لا يمكن افتراض إمكانية -وفقًا لحميد- خضوع الدول ذات الأغلبية المسلمة في الشرق الأوسط لذات المسار الذي مرت به الدول الغربية، وتم عبره تحييد دور الدين في المجال العام، واعتباره شأنًا خاصًّا بكل فرد، وإخضاع المسيحية لمبادئ من قبيل: حرية التعبير، والاختيار الديني، وإعلاء قيمة الإرادة الشعبية.

وتتصل الدلالة الثانية بشرعية الحكم، فعلى مدار القرون الـ13 الأولى للإسلام، كانت فكرة الخلافة، وعلاقة الإسلام بالسياسة، أمرًا مقبولا بشكل واسع، حتى في الأوقات التي لم تكن فيها الخلافة مؤثرة. ومن ثم ظلت الخلافة الكيان الأوحد للسلطة والحكم الذي يحظى بالشرعية في العالم الإسلامي، واستمر هذا الوضع حتى عام 1924، وإلغاء الخلافة الإسلامية "العثمانية" على يد مصطفى كمال أتاتورك، لتتشكل مرحلة جديدة معقدة في تاريخ المجتمعات الإسلامية.

فمنذ انتهاء الخلافة، شهدت منطقة الشرق الأوسط صراعات حادة كانت في الغالب متمحورة حول شرعية السلطة، ومحاولات إضفاء الشرعية على الأنظمة السياسية الناشئة، والدولة القومية المعاصرة التي تكونت في المنطقة، وأثير معها قضايا جدلية -لم يتم حسمها حتى الوقت الراهن- حول الدين، ودوره في المجال العام، وارتباطه بالتفاعلات السياسية القائمة. وهي القضايا التي تفرع عنها استقطابات بين تيارات مدنية وأخرى إسلامية تحاول استدعاء تجربة الدولة الإسلامية في مراحلها المبكرة. 

وفي هذا الإطار، يشير حميد إلى أن الفجوة بين ما كان عليه المسلمون يومًا ما، حيث كان هناك دائمًا ما يدعو للفخر في ظل الخلافة الإسلامية، وبين الأوضاع الراهنة في العالم الإسلامي؛ تؤدي إلى تنامي الشعور بالضياع، والحنين إلى الماضي، وهو الأمر الذي يدفع نحو الكثير من الغضب، والتحفيز على العنف السياسي. ولعل هذا المدخل يصلح لتفسير الصراعات المحتدمة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط. 

الإسلاميون والثورات العربية:

شكلت السياقات التي مرت بها منطقة الشرق الأوسط خلال العقود الماضية، بيئةً محفزةً لبزوغ تنظيمات الإسلام السياسي بتنوعاتها الشديدة. فمع انتهاء حقبة الاستعمار في المنطقة، وصلت تيارات قومية إلى سدة الحكم في الكثير من الدول العربية، وقدمت هذه الأنظمة -بأيديولوجياتها المفارقة للدين- وعودًا بالتنمية الاقتصادية والسياسية، ولكن سرعان ما تجلى عجز الكثير من هذه الأنظمة عن الوفاء بوعودها.

وفي خضم الأزمات التي واجهتها المجتمعات العربية، طرح تيار الإسلام السياسي نفسه كبديل للتيارات الأيديولوجية الأخرى، حيث رأى الإسلاميون أن "الأوضاع المأزومة للمجتمعات العربية جاءت نتيجةً لبعد الدولة عن الدين، وأن هذا بمثابة غضب إلهي، وأنه لإرضاء الله يجب إعادة الأمور إلى نصابها، والعودة إلى الأساس الإسلامي النقي"، على غرار الدولة الإسلامية في مراحلها المبكرة. وهكذا أضحت الدولة الحديثة في منطقة الشرق الأوسط أسيرة لصدام مستمر بين الإسلاميين والأنظمة الحاكمة والتيارات المدنية الأخرى. 

ويفترض حميد أن الثورات العربية التي اندلعت عام 2011 قدمت للإسلاميين فرصة مواتية للوصول إلى السلطة، فقد تمكنت جماعة الإخوان المسلمين -التي تأسست عام 1928- من الوصول إلى السلطة في مصر، وذلك من خلال إحرازها للأغلبية في أول برلمان ينعقد بعد ثورة يناير 2011، فضلا عن وصول مرشح الجماعة "محمد مرسي" إلى سدة الرئاسة في يونيو 2012. وفي السياق ذاته، تمكنت حركة النهضة في تونس من تحقيق مكاسب سياسية جوهرية. ولكن ما حدث بعد ذلك في كلا الدولتين كان من شأنه تقويض نفوذ الإسلاميين.

بعد إسقاط الأنظمة الحاكمة دخلت دول الربيع العربي في مراحل انتقالية ممتدة شوهت رومانسية ميادين الثورات المتجاوزة للاختلافات، والتي لم تكن سوى حالة استثنائية في تاريخ المجتمعات العربية، راوح بعدها الواقع الثوري التوافق السياسي ليكرس لتباينات وتمايزات فكرية وسياسية أكثر عمقًا وعنفًا. ففي مصر تنامت الصدامات بين التيار الديني والتيار المدني، الذي بدأ يعتقد أن جماعة الإخوان تخلت عنه بعد إنجاز الثورة، وسعت إلى الانفراد بالسلطة. ونتيجة لهذه التوجهات تم إنهاء تجربة الإخوان في السلطة بشكل سريع، حيث لم يستمر "محمد مرسي" في السلطة أكثر من عام. 

وتكررت معضلة الصدام الديني المدني في تونس أيضًا، فمع تشكيل حركة النهضة (ذات التوجهات الإسلامية) الحكومة بعد إطاحة الثورة بـ"زين العابدين بن علي"، لم تشهد الدولة درجة كبيرة من الاستقرار، لا سيما مع الاحتجاجات التي أطلقتها القوى المدنية، والتي تزايدت حدتها في عام 2013 عقب اغتيال شكري بلعيد ومحمد براهمي، وهما من أبرز قادة المعارضة. إذ ألقت القوى المدنية اللوم على حركة النهضة لكونها متساهلة في التعاطي مع الإسلاميين المتشددين، والذين ثبت تورطهم في اغتيال بلعيد وبراهمي. وسرعان ما فرضت هذه الأوضاع ضغوطًا على حركة النهضة التي تعاملت بدرجة كبيرة من البرجماتية، لتتخذ قرارًا بالتخلي عن السلطة، ويحل محلها حكومة مؤقتة لتسيير الأعمال في أكتوبر 2013. علاوة على ذلك فقد قدمت الحركة الكثير من التنازلات في عملية صياغة الدستور، ومنها -على سبيل المثال- التخلي عن المطالبة بالنص على الشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع. 

ويعتقد حميد أن أهم ما يميز الإسلاميين في تونس عن نظرائهم في مصر هو نمط القيادات الإسلامية المتاحة في كلا الدولتين، والتي تعطي الأفضلية للتيار الإسلامي التونسي. ولعل إجراء المقارنة بين "محمد مرسي" من جهة و"راشد الغنوشي" من جهة أخرى كفيل بإثبات هذه الفرضية. ففي حين سعى "مرسي" إلى توظيف الرئاسة وأجهزة الدولة -بحسب الكاتب- في مواجهة خصومه الليبراليين، مستندًا في ذلك إلى نهج تصادمي وإقصائي؛ كان "الغنوشي" أكثر اقتناعًا بمسار التفاوض، والوصول إلى تسويات توافقية مع القوى المدنية. 

ثمة نسخة أخرى راديكالية للإسلام السياسي يستدعيها حميد في كتابه، والمتمثلة -في الوقت الراهن- في "تنظيم الدولة الإسلامية"، المعروف إعلاميًّا بتنظيم "داعش"، حيث يعد ظهور التنظيم أحد تجليات أزمة الدولة العربية الحديثة، وفشل الأنظمة الحاكمة، ناهيك عن إخفاق ثورات الربيع العربي في إنتاج أنظمة سياسية مغايرة ومستقرة تحدث قطيعة مع الماضي. ومن هذا المنطلق، تبدو تجربة "داعش" تجربة مثيرة للانتباه، فالتنظيم يستدعي فكرة الخلافة، ويُنشئ دولة خاصة به، ويعتمد على أساليب وحشية في تعزيز نفوذه، وكسب المزيد من المؤيدين. 

وبالرغم من أن الكاتب يتوقع أن يكون التيار الرئيسي للحركات الإسلامية اللا عنيفة في نهاية المطاف أكثر جاذبية مقارنة بتنظيم "داعش"، فإنه يعترف بأنه حتى في حالة تدمير "داعش" فإنه سيظل أكثر حركات الإسلام السياسي نجاحًا، وأكثر مشاريع بناء الدولة الإسلامية المزعومة تميزًا خلال العقود الماضية، فضلا عما كشفته التجربة الداعشية من إخفاق "فكرة الحتمية الليبرالية" -حيث يتوجه التاريخ بشكل حتمي نحو مستقبل أكثر رشادة وعلمانية- في وصف وتفسير حقائق الشرق الأوسط. 

ويخلص حميد إلى أن ما تحتاجه منطقة الشرق الأوسط ليس استبعاد الدين من الواقع السياسي، إذ إنه افتراض غير واقعي، وغير متسق مع طبائع الأمور بالمنطقة، ولكن ما تحتاجه المنطقة هو تيار إصلاحي، شبيه بذلك الذي ظهر في القرن التاسع عشر، يسعى إلى التوفيق بين الإسلام والحداثة، ويمكن عبره الوصول إلى شكل من أشكال الديمقراطية الإسلامية باتباع مسار مختلف، ليس بالضرورة مطابقًا لمسار الغرب، يحافظ على الإسلام كمكون مركزي في المجتمع وتفاعلاته.


* عرض موجز لكتاب "الاستثناء الإسلامي: كيف يعيد الصراع على الإسلام تشكيل العالم" الصادر في 7 يونيو 2016 للزميل بمركز سياسات الشرق الأوسط بمعهد بروكنجز "شادي حميد". 

Shadi Hamid, " Islamic Exceptionalism: How the Struggle Over Islam Is Reshaping the World" , (New York: St. Martin's Press, 2016)